كل الكتاب/الفصل الحادي عشر: كيف بحث لوثر ووجد
من Gospel Translations Arabic
ظلّ صوت لوثر مسموعاً في أذن النّاس على مرّ أربع مئة سنة، وقد سرّع نبضات قلوبنا مثل إيقاع الطبل في الموسيقى الحربية: لقد اختبر لوثر الحياة لأنّه كان رجل إيمان. أودّ أن أوضّح هذا من خلال وصف بعض الحوادث التي حدثت في حياة لوثر. لقد أنار الإنجيل حياة المصلح. فقد كان في الدير حين، قرأ في العهد القديم هذه العبارة: "البّار بالإيمان يحيا". وظلّت هذه الآية السّماوية ترافقه؛ مع أنّه بالكاد فهم أهميّتها. لكنّه مع ذلك لم يجد السّلام لا في نشاطه الدّيني ولا من خلال ممارساته الرهبانيّة. إذ بقي يفرض على نفسه، بسبب معرفته المحدودة، الإماتات وأعمال التّكفير الثّقيلة؛ وقد جلب نفسه بذلك إلى باب الموت. فكان لا بدّ له من أن يسافر إلى روما، حيث هناك كنيسة قويّة وحديثة، وكان متأكّداً أنّه سيحصل على البركات وعلى مغفرة الخطايا في تلك الأضرحة المقدّسة. وقد حلم بالدّخول إلى مدينة من القداسة، لكنّه وجد نفسه في وكر للخطيّة يكتظّ بالمرائين. وقد سمع النّاس يقولون أنّه لو كان هناك جحيم لكانت روما مبنيّة على قمته، لأنّها كانت الأقرب إليها من بين كل الأماكن في العالم. لكنّه بقي يؤمن بالبابا واستمرّ بأعمال الكفّارة ساعياً أن يجد الرّاحة، لكنّه لم يجدها.
وفي أحد الأيام، كان يصعد على ركبتيه أدراج "سكالا سانكتا" في روما. وقد كنت أقف أحياناً كثيرة، مندهشاً عند أسفل الدّرج وأرى أناساً ضعفاء يصعدون وينزلون على ركبهم معتقدين أنّه هذا هو الدّرج عينه الذي نزل عليه يسوع بعد زيارته إلى بيلاطس، وأنّ بعض الدّرجات ما زالت تحمل آثار قطرات من دم يسوع. وبينما كان لوثر يتسلّق زحفاً هذه الدّرجات في أحد الأيّام، تذكّر فجأة الآية التي قد سبق أن قرأها خلال إقامته بالدّير، "البار بالإيمان يحيا". حينها قام عن ركبتيه ووقف، ونزل من على تلك الدّرجات دون التّذلّل ثانية. وفي هذه اللّحظة التي خلّصه فيها الرّب يسوع من هذا المعتقد الخرافي، وعرف أنّ باستطاعته أن يعيش بعيداً عن الكهنة، وأعمال الكفّارة، أو أيّ عمل آخر؛ وأن ما عليه فعله هو أن يعيش فقط بحسب إيمانه.
ومنذ أن آمن بهذا، ابتدأ يحيا ويخدم بفعاليّة. وفي ذلك الوقت، كان هناك شخص يدعى تتزل، وكان يذهب في جميع أنحاء ألمانيا محاولاً بيع مغفرة الذنوب لمن يدفع نقداً بالمقابل. ومهما كان إثمك، فما أن تمسّ نقودك أسفل الصّندوق حتّى تختفي كلّ خطاياك. وما أن سمع لوثر بذلك، صرخ ساخطاً، "سأحدث ثقباً في صندوقه" وفي صناديق أخرى أيضاً؛ وقد فعل ذلك. إنّ إيقاف هذه المفاهيم على باب الكنيسة هي طريقة أكيدة لإسكات معزوفة الغفران هذه. لقد أعلن لوثر أن مغفرة الخطايا هي بالإيمان بالمسيح يسوع، لا بالمال ولا بأيّ كلفة أخرى، وقد أصبح الغفران الذي يمنحه البابا مدعاة للسخرية. لقد عاش لوثر بالإيمان، وهو الذي كان هادئاً، أصبح يواجه الخطيّة كما يزأر الأسد على فريسته. إذ قد ملأه الإيمان بقوّة في حياته، ودخل في حرب شديدة مع العدوّ الذي هو الخطيّة.
بعد فترةٍ من الوقت، قاموا باستدعاء لوثر إلى أوغسبرغ، فذهب إلى هناك بالرّغم من نصيحة أصدقائه له بألاّ يذهب. لقد استدعوه للمثول أمامهم كهرطوقي، ليدافع عن نفسه أمام المجلس التّشريعي، وقد نصحوه بأن يبقى بعيداً، وإلا فسيكون الحرق مصيره؛ لكنّه شعر بأنّ الشّهادة يجب أن تنتشر، فذهب لوثر بالعربة من قرية إلى أخرى ومن بلدة إلى بلدة معلّماً النّاس الفقراء والضّعفاء الذين خرجوا ليصافحوه هو الذي كان يدافع عن المسيح وعن الإنجيل واضعاً حياته تحت الخطر. قد تتذكّر كيف وقف لوثر أمام مجمع أغسطس، وبالرّغم من إدراكه أنّه مهما كبرت قوّة الإنسان، فإنّ دفاعه قد يكلّفه حياته وأنّه قد يعرّض نفسه للنّار كجون هوس، لكنّه تقدّم أمامهم متوكّلاً على الرّب إلهه. وفي ذلك اليوم وأمام المجمع التّشريعي الألماني، قام لوثر بعملٍ كان بركة للآلاف به تمجّد اسم الرّب الهه أكثر فأكثر.
وبهدف إبقائه بأمان لفترةٍ من الوقت، قام صديقٌ له بإبعاده عن النّزاع وأخذه سجيناً إلى قلعة وارتبرغ. وقد قضى لوثر هناك وقتاً جميلاً، يرتاح ويدرس ويترجم ويلحّن محضّراً نفسه لمستقبلٍ شعر بأنّه سيكون حافلاً بالأحداث. لقد عمل كل ما يمكن لرجل خارج أيّ نزاع أن يعمل؛ لكنّ "البار بالإيمان يحيا" ولم يكن من السّهل على لوثر أن يدفن نفسه حياً، إذ كان ملتزماً بمواصلة عمل حياته.
فأرسل رسالةً إلى أصدقائه يقول فيها أنّه سيكون قريباً معهم، ومن ثمّ ظهر في ويتينبرغ. لقد أراد الأمير أن يبقيه متقاعداً لمدّة أطول؛ لكنّه خاف ألاّ يستطيع أن يحميه، حينها كتب لوثر: "لقد وقعت تحت حماية أقوى من حمايتك، وإنّي - على الأرجح - أحمي سموّك أكثر ممّا كان سموّك يحميني. فمن لديه أقوى إيمان، يملك حتماً أفضل حماية". لقد تعلّم لوثر أن يكون مستقلاً عن كلّ النّاس، إذ كان يلقي بنفسه على إلهه. وكان يعلم بأنّ كلّ العالم ضده، ومع ذلك بقي سعيداً – وحتّى لو فصله البابا، فقد أحرق المرسوم القاضي بالفصل؛ وإذا هدّده الإمبراطور كان يبتهج متذكّراً كلمة الرّب التي تقول: "قام ملوك الأرض وتآمر الرّؤساء معاً على الرّب وعلى مسيحه ..... السّاكن في السّموات يضحك .... " (مزمور2:2،4). وحين كانوا يقولون له "أين ستجد الأمان إن لم يحمك سموّه؟" فيجيبهم قائلاً "تحت ترس الله".
لم يتمكن لوثر أن يبقى هادئاً، إذ كان لا بدّ له أن يتكلّم، ويكتب، ويتوعّد؛ وكان يكلّمهم بثقة كبيرة جدّاً. وكان مشمئزّاً من شكوك الكلّ حول الله والكتاب المقدّس. يقول ميلانغتون بأنّ لوثر لم يكن دوغماتي، لكنّني أختلف عن ميلانغتون بشأن هذا، إذ أحسب لوثر رئيس الدوغماتية. لقد دعي ميلانغتون ب"التابع الهادئ"، وأنا أتساءل ما كانت ستكون عليه حالتنا لو كان لوثر كميلانغتون أيضاً. لقد احتاجت تلك الأوقات إلى قائد صارم وثابت، وقد هيّأ الإيمان لوثر لسنوات عديدة، مقاوماً كلّ أحزانه وعجزه. لقد كان رجلاً عملاقاً ذا مقدرة عقلية عظيمة وبنية جسديّة قويّة: وكانت حياته الأساسيّة مبنيّة ومرتكزة على الإيمان. كان لوثر يعاني كثيراً من أمراض جسديّة ظهرت كعلامة ضعف، لكنّ هذا الضعف لم يظهر؛ لإنّه حينما آمن، كان متأكداً من إيمانه ومن غاية وجوده، ما جعله يبدو دائماً قويّاً. ولو مرّ أمامه كلّ ملاك من ملائكة السّماء ليؤكّد له حقيقة الهه، فما كان سيشكرهم على شهادتهم، لأنّه آمن بالله بدون شهادة ملائكة ولا بشر. وكان على ثقة بأنّ كلّ كلام الكتاب المقدّس هو أضمن من كلّ أقوال السّرافيم والبشر.
لقد أجبر هذا الرّجل على العيش بإيمانه، فهو كان رجلاً ذا روح عاصفة وكان الإيمان هو الأمر الوحيد الذي يمكن أن بجلب له السّلام. وكان ذلك الحماس المفعم بالحياة قد جلب له في ما بعد كآبة رهيبة في الرّوح، ما دفعه أن يحتاج إلى الإيمان بالله. وإن كنت قد قرأت نموذجاً عن حياته الرّوحية فستجد لحظات من العمل الشّاق أحياناً محاولاً إبقاء روحه حيّة. وكونه رجلاً ذا عواطف مثل عواطفنا مليئة بالنواقص، فهو حتماً كان يائساً أحياناً كالأضعف بيننا وقد هدّد تزايد الحزن قلبه القوي. لكن كلا من لوثر وجون كالفين كان يتطلّع إلى الرّاحة في السّماء، إذ لم يحبّ النّزاع الذي عاش فيه، لكنّه كان مسروراً ويشعر بالسّلام في اهتمامه بقطيع الله على الأرض. لقد سكن هؤلاء الرّجال مع الله في صراحة مقدّسة مصلّين بإيمان.
لقد تمسّك إيمان لوثر بصليب ربّنا، ولن يتزعزع عنه. لقد آمن بمغفرة الذنوب والخطايا، ولم يشكّ بهذا الأمر أبداً. وأرسى لوثر مرساته على الكتاب المقدس، ورفض كل كلام رجال الدّين الملفّق وتقاليد الآباء. كان مطمئناً من حقيقة الإنجيل، ولم يشكّ يوماً بأنّه سينتشر ويعم، حتّى لو وقفت الأرض والجحيم ضده. وعندما اقترب لوثر من الموت، هاجمه عدوّه القديم بعنف، لكن عندما سألوه إذا كان يملك الإيمان نفسه، كانت ال"نعم" إيجابيّة بما فيه الكفاية. ولم يكن من الضروري حتّى أن يسألوه، إذ كان يجب أن يكونوا متأكدين من ذلك. وأمّا الآن، فإنّ الحقيقة التي أعلنها لوثر ما زالت تردّد على مسامع النّاس، وتستمر الكرازة بها حتّى مجيء ربّنا. ولن تحتاج المدينة المقدّسة أيّ شمعة، ولا ضوء الشمس، لأن الرّب نفسه سيكون نوراً لشعبه، وحتّى نحن يجب أن نشرق بالضوء الإلهي إلى أقصى حد.